سورة طه - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (طه)


        


قلت: {خَلْقَه}: يحتمل أن يكون اسمًا بمعنى المخلوق، فيكون مفعولاً أولاً، و{كل شيء}: مفعولاً ثانيًا، أو يكون مصدرًا بمعنى الخلقة، فيكون مفعولاً ثانيًا، أي: أعطى كل شيء خِلقتَه وصُورته التي هو عليها.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {قال} فرعونُ في جواب موسى، لما أتاه مع أخيه وبلغا الرسالة، وقالا له ما أمرهما به ربهما، وإنما حذفه للإيجاز، وللإشعار بأنهما لما أُمرا بذلك سارعا إلى الامتثال من غير تلعثم، أو بأن ذلك من الظهور بحيث لا حاجة إلى التصريح به، فقال لهما فرعون: {فمن ربكما يا موسى}؟ لم يضف الرب إلى نفسه؛ لغاية عتوه وطغيانه، بل أضافه إليهما، وفي الشعراء: {وَمَا رَبُّ العالمين} [الشُّعَرَاء: 23]، والجمع بينهما تَعدد الدعوة، ففي كل مرة حكى لنا ما قال. وتخصيص النداء بموسى، مع توجيه الخطاب إليهما؛ لأنه الأصل في الرسالة، وهارون وزيره.
{قال} موسى عليه السلام مجيبًا له: {ربُنا الذي أعطى كُلَّ شيءٍ خلقه} أي: ربنا هو الذي أعطى كل شيء خلقه، أي: مخلوقاته؛ مما يحتاجون إليه ويرتفقون به في قوام أبدانهم ومعايشهم، أو أعطى كل شيء خِلْقته وصُورته التي يختص بها، ولم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان. ولكن خلق كل شيء فقدره تقديرًا. أو أعطى كل شيء فعله وتصرفه، فاليد للبطش، والرجل للمشي، واللسان للنطق، والعين للنظر، والأذن للسمع، أو أعطى كل شيء شكله من جنسه، للإنسان زوجةً، وللبعير ناقةً، وللفرس رَمْكةً، وللحمار أتَانًا. {ثم هَدى} إلى طريق الانتفاع والارتقاء، بما أعطاه وعرفه كيف يتوصل إلى بقائه وكماله، فألهمه الرضاع والأكل والشرب والجماع، وطلب الرعي وتوفي المهالك، وكيف يأتي الذكرُ الأنثى.
ولمّا كان الخلق- الذي هو عبارة عن تركيب الأجزاء وتسوية الأجسام- مقدمًا على الهداية، التي هي عبارة عن إيداع القوى المحركة والمدركة في تلك الأجسام، عطف بثم المفيدة للتراخي. ولقد ساق عليه السلام جوابه على نمط رائق، وأسلوب لائق؛ حيث بيَّن أنه تعالى عالم قادر بالذات، خالق لجميع الكائنات، منعم عليهم بجميع النعم السابغات، هادٍ لهم إلى طرق المرْتَفقات.
{قال} فرعون: {فما بالُ القرونِ الأُولى} أي: ما حالها بعد الموت، وما فعل الله بها؟ فقال له موسى: هذا غيب لا يعلمه إلاّ الله، وهو معنى قوله: {علمها عند ربي}، أو ما حال القرون الماضية والأمم الخالية، وماذا جرى عليهم من الحوادث المفصلة؟ فأجابه عليه السلام بأن العلم بأحوالهم مفصلةً مما لا ملامسة له بمنصب الرسالة، وإنما علمها عند الله عزّ وجلّ. وكأنَّ عدو الله، لما خاف أن يُبهت، ويُفتضح، ويظهر للناس حجة موسى عليه السلام، أراد أن يصرفه عليه السلام إلى ما لا يعني، من ذكر الحكايات التي لا مسيس لها بمنصب الرسالة؛ فلذلك أعرض عنه، و{قال علمها عند ربي}، وهذا أحسن من الأول؛ لأنه لو كان سؤاله عن أحوالها بعد الموت لأمكن أن يقول له: من اتبع الهدى منهم فقد سلم وتنعم، ومن تولى فقد عُذب وتألّم، حسبما نطق به قوله تعالى: {والسلام على مَن اتبع الهدى}.
وقيل: فما بالها لم تبعث كما يزعم موسى، أو: ما بالها لم تكن على دينك، أو: ما بالها كذبت ولم يُصبها عذاب، وكلها بعيدة.
قلت: والذي يظهر أن الطاغية فَهِمَ قوله تعالى: {ثم هدى} أي: إلى الإيمان، فاعترض بقوله: فما بال القرون الأولى لم تؤمن حتى هلكت؟ فأجابه موسى عليه السلام بقوله: {علمها عند ربي}، فهو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بمن اهتدى. وقوله: {في كتاب} أي: اللوح المحفوظ، فقد أثبتت فيه بتفاصيلها، ويجوز أن يكون ذلك عبارة عن تمكنه وتقريره في علم الله- عزّ وجلّ- تمكن من استحفظ الشيء، وقيده بالكتابة، كما يَلوحُ به قوله تعالى: {لا يَضِلُّ ربي} أي: لا يخطئ ابتداء، {ولا ينسى} فيتذكر. وفيه تنبيه على أن كتابته في اللوح المحفوظ ليس لحاجته إليه في العلم به ابتداء أو بقاءًا. وإظهار {ربي} في موضع الإضمار، للتلذذ بذكره، وللإشعار بعلّية الحكم؛ فإن الربوبية مما تقتضي عدم الضلال والنسيان.
ولقد أجاب عليه السلام عن السؤال بجواب عبقري بديع، حيث كشف عن حقيقة الحق حجابها، مع أنه لم يخرج عما كان بصدده من بيان شؤونه تعالى، ووصف الحق تعالى بأوصاف لا يمكن عدو الله أن يتصف بشيء منها، لا حقيقة ولا مجازًا، ولو قال له: هو الخالق الرازق، وشبه ذلك، لأمكن أن يغالط ويدعي ذلك لنفسه.
ثم تخلص إليه؛ حيث قال: بطريق الحكاية عن الله عزّ وجلّ، أو من كلامه عليه السلام: {الذي جعل لكمُ الأرضَ مهادًا} أي: كالمهد تتمهدونها بالسكن والقرار، أي: جعل كل موضع منها مهدًا لكل واحد منكم. {وَسَلَكَ لكم فيها سُبُلاً} أي: طُرقًا تتوصلون بها من قطر إلى قطر، لتقضوا منها مآربكم، وتنتفعوا بمرافقها ومنافعها، ووسطها بين الجبال والأودية لتعرف أمارات سُبلها. {وأنزل من السماء ماءً} هو المطر، {فأخرجنا به}، يحتمل أن يكون من كلام الله، وما قبله من كلام موسى، أو كله من كلام الله تعالى، حكاه موسى عليه السلام، وإنما التفت إلى التكلم؛ للتنبيه على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة والحكمة، والإيذان بأنه لا يتأتى إلا من قادر مطاع عظيم الشأن، أي: فأخرجنا بذلك الماء {أزواجًا}: أصنافًا، سميت أزواجًا؛ لازدواجها، واقتران بعضها ببعض، كائنة {من نباتٍ شتى}: متفرقة، جمع شتيت: أي: متفرق، وهو، في الأصل، مصدر، يستوي فيه الواحد والجمع، يعني: أنها مختلفة في الشكل واللون والطعم والرائحة والنفع، وبعضها صالح للناس على اختلاف صلاحها لهم، وبعضها للبهائم.
ومن تمام نعمته تعالى أن أرزاق عباده، لمَّا كان تحصيلها بعمل الأنعام، جعل عَلفَها مما يفضل عن حاجتهم، ولا يليق بكونه طعامًا لهم، وهو معنى قوله: {كُلوا وارْعَوا أنعامكم}، والجملة: حالٌ، على إرادة القول، أي: أخرجنا منها أصناف النبات، قائلين: كلوا وارعوا أنعامكم، آذنين في ذلك لكم.
{إِن في ذلك} المذكور، من شؤونه تعالى، وأفعاله وأنعامه، {لآياتٍ} جليلة واضحة الدلالة على عظيم شأنه تعالى، في ذاته وصفاته وأفعاله، وعلى صحة نبوة موسى وهارون- عليهما السلام-، {لأُولي النُّهَى} أي: العقول الصافية، جمع نُهْيَة، سمى بها العقل، لنهيه عن اتباع الباطل، وارتكاب القبيح، أي: لذوي العقول الناهية عن الأباطيل، التي من جملتها ما يدعيه الطاغية وما يقبله منه الفئة الباغية. وتخصيص كونها آيات لهم، مع أنها آية للعالمين؛ لأنهم المنتفعون بها.
{منها خلقناكم} أي: من الأرض الممهدة لكم، خلقناكم بخلق أبيكم آدم عليه السلام، وأنتم في ضمنه، إذ لم تكن فطرته مقصورة على نفسه عليه السلام، بل كانت أنموذجًا منطويًا على فطرة سائر أفراد الجنس، انطواء إجماليًا، فكان خلقه عليه السلام منها خلقًا لكل منها، وقيل: خلقت أبدانكم من النطفة المتولدة من الأغذية المتولدة من الأرض. وقال عطاء: إن المَلَك الموكل بالرحم ينطلق، فيأخذ من تراب المكان الذي يُدفن فيه العبد، فيذره على النطفة، فتخلق من التراب ومن النطفة. اهـ.
{وفيها نُعيدكم} بالإماتة وتفريق الأجزاء، والكلام على الأشباح دون الأرواح، فإنها، بعد السؤال، تصعد إلى السماء، كما يأتي عند قوله تعالى: {فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المقربين} [الواقِعَة: 88] الآية. ولم يقل: وإليها نُعيدكم؛ إشارة إلى استقرار العبد فيها، {ومنها نُخرجكم تارةً أخرى} بتأليف أجزائكم المتفتتة، المختلطة بالتراب، على الهيئة السابقة، ورد الأرواح إليها. وكون هذا الإخراج تارة أخرى: باعتبار أن خلقهم من الأرض إخراج لهم منها، وإن لم يكن على التارة الثانية. والتارة في الأصل: اسم للتور، وهو الجريان، فالتارة واحدة منه، ثم أطلق على كل فعلة واحدة من الفعلات المتحدة، كما مر في المرة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه، مما سبق لهم في أزله، ثم هدى إلى الأسباب الموصلة إليه، فمنهم من كان حظه في الأزل قوت الأشباح، هداه إلى أسبابها، وهم أهل مقام البعد، ومنهم من كان حظه قوت القلوب، فهداه إلى أسبابها من المجاهدة في الطاعات وأنواع القربات، وهم أنواع:
فمنهم من شغلهم بتدريس العلوم وتدقيق الفهوم، وتحرير المسائل وتمهيد النوازل، وهداهم إلى أسباب ذلك، وهم حملة الشريعة، إن صحت نيتهم وثبت إخلاصهم. ومنهم من شغلهم بتوالي الطاعات وتعمير الأوقات، وهداهم إلى أسبابها، وقواهم على مشاقها، وهم العباد والزهاد.
ومنهم من شغلهم بإطعام الطعام والرفق بالأنام، وتعمير الزوايا وقبول الهدايا، وهداهم إلى أسباب عمارتها والقيام بها، وهم الصالحون. ومنهم: من كان حظه قوت الأرواح، وهم المريدون السائرون، أهل الرياضة والتصفية، والتخلية والتحلية، والتهذيب والتدريب، وهداهم إلى أسبابها، ووصلهم إلى شيخ كامل يُبينها ويسلّكها، وهم في ذلك مقامات متفاوتة، على حسب صدقهم وجدهم، ومنهم من كان حظه قوت الأسرار، وهم العارفون الكبار، السابقون المقربون، أهل الفناء والبقاء، أهل الرسوخ والتمكين، فهداهم إلى ما أمّلوا، ووصلهم إلى ما طلبوا. نفعنا الله بهم، وخرطنا في سلكهم. آمين.
وقوله: {فما بال القرون الأولى...} الآية، فيه زجر للمريد عن الاشتغال بالحكايات الماضية، لأن في ذلك شُغُلاً عن الله، إلا ما كان فيه زيادة إلى الله، فتلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم. وقوله تعالى: {الذي جعل لكم الأرض مهادًا} أي: جعل أرض النفوس مهادًا للقيام برسم العبودية، وسلك فيها سبلاً توصل إلى مشاهدة الربوبية، لمن سلكها بالرياضة والمجاهدة، وأنزل من سماء الملكوت ماء الواردات الإلهية، تحيا به الأرواح، فتخرج أصنافًا من العلوم والحكم شتى، كُلوا برعي القلوب في نِوار تجلياتها، وارعوا لقوت أشباحكم من ثمار حسياتها، إن في ذلك لآيات لأولي النُهى. {منها خلقناكم}: من أرض نفوسكم أخرجناكم، بشهود عظمة الربوبية، وفيها نُعيدكم؛ للقيام برسم العبودية، ومنها نُخرجكم؛ لتكونوا لله، لا لشيء دونه. أو منها خلقناكم، أي: أخرجناكم من شهود ظلمتها إلى نور خالقها، بالفناء عنها، وفيها نُعيدكم بالرجوع إلى الأثر في مقام البقاء، {ومنها نُخرجكم تارة أخرى}؛ بعقد الحرية في مقام البقاء، فتكونوا عبيدًا شُكَّرًا. وبالله التوفيق.


قلت: {موعدًا}: مصدر، مفعول أول ل {اجعل}. و{مكانًا}: مفعول بفعل محذوف، أي: تعدنا مكانًا سُوى، لا بموعد، لأنه وصف، ويجوز نصبه على إسقاط الخافض، و{يوم الزينة}: على حذف مضاف، أي: مكان يوم الزينة، و{أن يحشر}: عطف على يوم، أو الزينة.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ولقد أريناه} أي: فرعون، {آياتنا}، حين قال له: {فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الشُّعَرَاء: 31-33]، وعبّر بالجمع، مع كونهما اثنتين، باعتبار ما في تضاعيفهما من الخوارق، التي كل واحدة منها آية. وقد رأى فرعونُ من هاتين الآيتين أمورًا دواهي، فإنه روى أنه عليه السلام، لما ألقى العَصا، انقلبت ثعبانًا أشعر، فاغرًا فاه، بين لَحْيَيْهِ ثمانون ذراعًا، وضع لحيه الأسفل على الأرض، والأعلى على سور القصر، ثم توجه نحو فرعون، فهرب وأحدث، وانهزم الناس مزدحمين، فمات منهم خمسة وعشرون ألفًا من قومه، فصاح فرعون: يا موسى أُنشدك الذي أرسلك إلا أخذته، فأخذه، فعاد عصًا. ورُوي أنها، لما انقلبت حية ارتفعت في السماء قدر ميل، ثم انحطت مقبلة نحو فرعون، وجعلت تقول: يا موسى مُرني بما شئت، ويقول فرعون: أنشدك... الخ. ونزع يده من جيبه، فإذا هي بيضاء بياضًا نورانيًا خارجًا عن العادة. ففي تضاعيف كُلٍّ من الآيتين آيات جمة، لكنها لما كانت غير مذكورة بالصراحة، أكدت بقوله تعالى: {كلَّها}، كأنه قيل: أريناه آياتنا بجميع مستتبعاتها وتفاصيلها، قصدًا إلى بيان أنه لم يبق له في ذلك عذر.
وقيل: أريناه آياتنا التسع، وهو بعيد؛ لأنها إنما ظهرت على يده عليه السلام بعد ما غلبت السحرة على مَهَل، في نحو من عشرين سنة، والكلام هنا قبل المعارضة، اللهم إلا أن يكون الحق تعالى أخبرنا أنه أراه الآيات التسع كلها، فأبى عن الإيمان، ثم رجع إلى إتمام القصة.
وأبعد منه: من عَدّ في الآيات ما جُعِل لإهلاكهم، لا لإرشادهم إلى الإيمان؛ من فلق البحر، وما ظهر بعد مهلكه من الآيات الظاهرة لبني إسرائيل؛ من نتق الجبل والحجر، وغير ذلك، وكذلك من عَدّ منها الآيات الظاهرة على يد الأنبياء- عليهم السلام-؛ حيث حكاها موسى عليه السلام لفرعون، بناء على أن حكايته إياها له في حكم إظهارها بين يديه؛ لاستحالة الكذب عليه، فإنَّ حكايته إياها لفرعون مما لم يجر ذكره هنا، فكل هذا بعيد من سياق النظم الكريم.
قال تعالى: {فَكَذَّبَ} فرعونُ موسى، {وأَبَى} الإيمان والطاعة، مع ما شاهد على يده من الشواهد الناطقة بصدقه. جحودًا وعنادًا؛ لعتوه واستكباره، وقيل: كذَّب بالآيات جميعًا، وأبَى أن يقبل شيئًا منها.
{قال أجئتنا لتُخْرِجَنا من أرضنا بسحرك يا موسى}، هذا استئناف مُبين لكيفية تكذيبه وإبائه. والمجيء إما على حقيقته، أو بمعنى الإقبال على الأمر والتصدي له، أي: أجئتنا من مكانك الذي كنتَ فيه ترعى الغنم؛ لتُخرجنا من أرضنا؟ أو: أقبلت إلينا؛ لتُخرجنا من مصر؛ بما أظهرت لنا من السحر، فإن ذلك مما لا يصدر عن عاقل؛ لكونه من باب محاولة المحال، وإنما قاله؛ تحريضًا لقومه على مقت موسى والبعد عنه، بإظهار أن مراده عليه السلام إخراج القبط من وطنهم، وحيازة أموالهم، وإهلاكهم بالكلية، حتى لا يميل أحد إليه، {والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ} [يوسف: 21]. وسمى ما أظهره عليه السلام من المعجزة الباهرة سحرًا، ثم ادعى أنه يعارضه، حيث قال: {فَلنَأْتينك بسحرٍ مثله} أي: وإذا كان الأمر كذلك، فوالله لنأتينك بسحر مثل سحرك، {فاجعلْ بيننا وبينك موعدًا} أي: وعدًا {لا نُخلفه} أي: لا نخلف ذلك الوعد، ولا نجاوزه {نحنُ ولا أنت}، بل نجتمع فيه وقت ذلك الموعد، وإنما فوض اللعينُ أمرَ الوعد إلى موسى عليه السلام؛ للاحتراز عن نسبته إلى ضعف القلب ودخول الرعب إليه، وإظهار الجلادة، بإظهار أنه متمكن من تهيئَة أسباب المعارضة، طال الأمر أو قصر، كما أن تقديم ضميره على ضمير موسى عليه السلام، وتوسيط كلمة النفي بينهما؛ للإيذان بمسارعته إلى عدم الاختلاف.
وقوله تعالى: {مكانًا سُوىً} أي: يكون ذلك الوعد- أي: وعد الاجتماع- في مكان مستوٍ، تستوي مسافته بيننا وبينك، عدلاً، لا ظلم على أحد في الإتيان إليه، منا ومنك، وفيه لغتان: ضم السين وكسرها.
{قال} لهم موسى عليه السلام: {موعدُكُم يومُ الزينة} أي: مكان الزينة؛ لأن يوم الزينة يدل على مكان مشتهر باجتماع الناس فيه في ذلك اليوم، وهو يوم عيد لهم، في كل عام يتزينون ويجتمعون فيه، وقيل: يوم النيروز، وقيل: يوم عاشوراء، وقيل: يوم سوق لهم. {وأن يُحشر الناسُ ضحًى} أي: موعدكم يوم الزينة، وحشرُ الناس ضحى، أو يوم حشر الناس في وقت الضحى، يجتمعون نهارًا جهارًا، أراد عليه السلام أن يكون أبلغ في إظهار الحجة وإدحاض الباطل، بكونه على رؤوس الأشهاد. والله تعالى أعلم.
الإشارة: من سبق له البعد عن الرحمن، لا ينفع فيه خوارق معجزاتٍ، ولا قاطع برهان ودليل، أبعده التكبر والطغيان، ودفعُ الحق بالباطل. نعوذ بالله من موارد الخذلان.


قلت: {إن هذان لساحران}: مَنْ خَفَّفَ {إن}: جعلها نافية، أو مخففة، واللام فارقة. ومَنْ ثَقَّلها وقرأها: {هذان}؛ بالألف، فقيل: على لغة بلحارث بن كعب وخثعم وكنانة، فإنهم يَلْزَمُونَ الألف؛ رفعًا ونصبًا وجرًا، ويُعرِبُونَها تقديرًا، وقيل: اسمها: ضمير الشأن، أي: إنه الأمر والشأن هاذان لهما ساحران. وقيل: {إن} بمعنى نعم، لا تعمل، وما بعدها: جملة من مبتدأ وخبر. وقالت عائشة- رضي الله عنها-: إنه خطأ من الكُتاب، مثل قوله: {والمقيمين الصلاة} [النِّساء: 162]، {والصابئون} [المائدة: 69]، في المائدة، ويرده تواتر القراءة.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {فتولَّى فرعونُ} أي: انصرف عن المجلس، ورجع إلى وطنه، {فجمعَ كيده} أي: حِيلَه وسَحرته؛ ليكيد به موسى عليه السلام، {ثم أتى} الموعد، ومعه ما جمعه من كيده وسحرته، وسيأتي عددهم.
{قال لهم موسى}، حيث اجتمعوا من طريق النصيحة: {ويلَكُم} أي: ألزمَكم اللهُ الويل، إن افتريتم على الله الكذب، {لا تفتروا على الله كذبًا} بإشراك أحد معه، كما تعتقدون في فرعون، أو بأن تحيلوا الباطل حقًا، {فَيُسْحِتَكم} أي: يستأصلكم، بسببه، {بعذابٍ} لا يُقَادَر قدره، وقرئ رباعيًا وثلاثيًا، يقال: سحت وأسحت. فالثلاثي: لغة أهل الحجاز، والرباعي: لغة بني تميم ونجد. {وقد خاب} وخسر {مَن افترى} على الله، كائنًا من كان، بأي وجه كان، فيدخل الافتراء المنهي عنه دخولاً أوليًا، أو: قد خاب فرعون المفتري على الله، فلا تكونوا مثله في الخيبة.
{فتنازعوا} أي: السحرة، حين سمعوا كلامه عليه السلام، {أمرَهُم} أي: في أمرهم الذي أريد منهم؛ من مغالبته عليه السلام، وتشاوروا وتناظروا {بينهم} في كيفية المعارضة، وتشاجروا، ورددوا القول في ذلك، {وأسَرُّوا النجوى} أي: من موسى عليه السلام؛ لئلا يقف عليه فيدافعه، ونجواهم على هذا هو قوله: {قالوا إِنْ هذان} أي: موسى وهارون، {لساحران} عظيمان {يُريدان أن يُخرجاكم من أرضكم}؛ مصر، بالاستيلاء عليها {بسحرهما} الذي أظهره قبل، {ويَذْهبا بطريقتكُمُ المثلى} أي: بمذهبكم، الذي هو أفضل المذاهب وأمثلُها، بإظهار مذهبهما وإعلاء دينهما.
قال ابن عطية: والأظهر، في الطريقة هنا، أنه السيرة والمملكة. والمُثلى: تأنيث الأمثل، أي: الفاضلة الحسنة. اهـ. وقيل: الطريقة هنا: اسم لوجوه القوم وأشرافِهم، لأنهم قدوة لغيرهم، والمعنى: يريدان أن يصرفا وجوه الناس وأشرافَهم إليهما، ويُبطلان ما أنتم عليه. وقال قتادة: (طريقتهم المثلى يومئذ: بنو إسرائيل، كانوا أكثر القوم عددًا وأموالاً، فقال فرعون: إنما يريدان أن يذهبا به لأنفسهما). ولا شك أن حمل الإخراج على إخراج بني إسرائيل من بينهم، مع بقاء قوم فرعون على حالهم آمِنين في ديارهم بعيد، مما يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله.
وقوله تعالى: {فأجْمِعُوا كيدكم}: تصريح بالمطلوب، أي: إذا كان الأمر كما ذكر، من كونهما ساحرين يُريدان إخراجكم من بلادكم، فأجمعوا كيدكم، أي: اجعلوه مُجمعًا عليه، بحيث لا يتخلف عنه واحد منكم، وارموه عن قوس واحدة.
وقرأ أبو عمرو: {فاجْمَعُوا}، من الجمع، أي: فاجمعوا أدوات سحركم ورتبوها كما ينبغي، {ثم ائْتُوا صفًّا} أي: مصطفين، أمروا بذلك؛ لأنه أَهْيَبُ في صدور الرائين، وأَدْخَلُ في استجلاب الرهبة من المشاهدين. قيل: كانوا سبعين ألفًا، مع كل واحد منهم حبل وعصا، وأقبلوا عليه إقبالة واحدة، وقيل: كانوا اثنين وسبعين ساحرًا؛ اثنان من القبط، والباقي من بني إسرائيل، وقيل: تسعمائة؛ ثلاثمائة من الفُرس، وثلاثمائة من الروم، وثلاثمائة من الإسكندرية، وقيل: خمسة عشر ألفًا. والله تعالى أعلم. ولعل الموعد كان مكانًا متسعًا، خاطبهم موسى عليه السلام بما ذكر في قطر من أقطاره، وتنازعوا أمرهم في قطر آخر، ثم أمروا أن يأتوا وسطه على الوجه المذكور.
ثم قالوا في آخر نجواهم: {وقد أفلح اليوم مَن استعلى}؛ فاز بالمطلوب مَنْ غلب، يريدون بما وعدهم فرعون من الأجر والتقريب، أو بالرئاسة والجاه والذكر الحسن في الناس. وقيل: كان نجواهم أن قالوا- حين سمعوا مقاله موسى عليه السلام-: ما هذا بقول ساحر، وقيل: كان ذلك أن قالوا: إن غلبنا موسى اتبعناه، وقيل: قالوا فيها: إن كان ساحرًا غلبناه، وإن كان من السماء فله أمر. فيكون إسرارهم حينئذ من فرعون، ويحمل قولهم: {إِن هذان لساحران...} إلخ، على أنهم اختلفوا فيما بينهم على الأقاويل المذكورة، ثم أعرضوا عن ذلك بعد التنازع والتناظر، واستقرت آراؤهم على المغالبة والمعارضة. والله تعالى أعلم بما كان.
ثم طلبوا المعارضة، فقالوا: {يا موسى إِما أن تُلقي} ما تلقيه أولاً، {وإِما أن نكون أول من ألقى} ما نلقيه. خيروه عليه السلام فيما ذكر؛ مراعاة للأدب، لما رأوا عليه من مخايل الخير، وإظهارًا للجلادة، {قال بل أَلْقُوا} أنتم أولاً، مقابلة لأدبهم بأحسن منه، فَبَتَّ القول بإلقائهم أولاً، وإظهارًا لعدم المبالاة بسحرهم، ومساعدة لما أوهموا من الميل إلى البدء، وليستفرغوا أقصى جهدهم وسعيهم، ثم يُظهر اللهُ سبحانه سلطانه، فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه كما تعودَ من ربه.
فألقوا ما عندهم، {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِم أَنَّهَا تَسْعَى} أي: ففوجئ موسى، وتخيل سعي حبالهم وعصيهم من سحرهم، وذلك أنهم كانوا لطخوها بالزئبق، فلما ضربت عليها الشمس اضطربت واهتزت، فخيل إليه أنها تتحرك. قلت: هكذا ذكر كثير من المفسرين. والذي يظهر أن تحريكها إنما كان من تخييل السحر الذي يقلب الأعيان في مرأى العين، كما يفعله أهل الشعوذة، وهو علم معروف من علوم السحر، ويدل على ذلك ما ورد أنها انقلبت حيات تمشي على بطونها، تقصد موسى عليه السلام، فكيف يفعل الزئبق هذا؟ قال ابن جزي: استدل بعضهم بهذه الآية أن السحر تخييل لا حقيقة له. اهـ.
{فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً} أي: خوفًا، {موسى}: أي: أضمر في نفسه بعض خوف، من جهة الطبع البشري المجبول على النفرة من الحيات، والاحتراز من ضررها. وقال مقاتل: إنما خاف موسى، إذ صنع القوم مثل صنيعه، بأن يشكُّوا فيه، فلا يتبعوه، ويشك فيه من تابعه. {قلنا لا تخف} ما توهمت، {إِنك أنت الأعلى}؛ الغالب عليهم، والجملة: تعليل لنهيه عن الخوف، وتقرير لغلبته، على أبلغ وجه، كما يُعرب عنه الاستئناف، وحرف التحقيق، وتأكيد الضمير، وتعريف الخبر، ولفظ العلو.
ثم قال له: {وأَلْقِ ما في يمينك} أي: عصاك، وإنما أبهمت؛ تفخيمًا لشأنها، وإيذانًا بأنها ليست من جنس العصا المعهودة، بل خارجة عن حدود أفراد الجنس، مبهمة الكنه، مستتبعة لآثار غريبة، وأما حملُ الإبهام على التحقير، بمعنى: لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم، وألق العُوَيْد الذي في يدك، فإنه بقدرة الله تعالى يتلقفُها مع وحدته وكثرتها، وصغره وكبرها، فيأباه ظهور حالها، وما وقع منها فيما مر من تعظيم شأنها.
وقوله تعالى: {تَلْقَفْ ما صنعوا}: جواب الأمر، من لقفه، إذا ابتلعه والتقمه بسرعة، أي: تبتلع، وتلتقم بسرعة، ما صنعوا من الحبال والعصي، التي تخيل إليك، والجملة الأمرية معطوفة على النهي عن الخوف، موجبة لبيان كيفية غلبته عليه السلام وعلوه، وإدحاض الخوف عنه، فإن ابتلاع عصاه لأباطيلهم، التي منها أوجس في نفسه ما أوجس، مما يقلع مادته بالكلية. وهذا، كما ترى، صريح في أن خوفه عليه السلام لم يكن- كما قال مقاتل- من خوف شك الناس وعدم اتباعه له عليه السلام، وإلا لعلله بما يزيله من الوعد بالنصر الذي يُوجب اتباعه. فتأمله. قاله أبو السعود. وفيه نظر بأن قوله: {تلقف ما صنعوا} صريح في عدم الالتباس؛ إذ لا ينبغي التباس مع ابتلاع عصاه لعصيهم، فتأمله. {إِنما صنعوا كَيْدُ ساحرٍ} أي: إن الذي صنعوه كيد ساحر وحِيلَهُ. وقرأ أهل الكوفة: {سِحْر}؛ بكسر السين، فالإضافة للبيان، كما في علم فقه، أو: كيد ذي سحر، أو يسمى الساحر سحرًا؛ مبالغة. والجملة تعليل لقوله: {تلقف} أي: تبتلعه؛ لأنه كيد ساحر، {ولا يُفلح الساحرُ حيث أتى} أي: حيث وُجد، وأين أقبل، وهو من تمام التعليل. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يقال للفقير، المتوجه إلى الله تعالى، من قبل الحق: إمَّا أن تُلقي الدنيا من يدك، وإمَّا أن نكون أول من ألقاها عنك، أي: إما أن تتركها اختيارًا، أو تزول عنك اضطرارًا؛ لأن عادته تعالى، مع المتوجه الصادق، أن يدفع عنه كل ما يشغله من أمور الدنيا فيقول- إن كان صادق القلب-: بل ألقها، ولا حاجة لي بها، فألقاها الحق تعالى، وأخرجها من يده، عناية به، فإذا أشغالها وعلائقها كانت تسعى في هلاكه وخراب قلبه وتضييع عمره، فأوجس في نفسه خيفة من العيلة ولحوق الفاقة، قلنا: لا تخف، حيث توجهت إلى مولاك، فإن الله يرزق بغير حساب وبلا أسباب، وأَلقِ ما في يمين قلبك من اليقين، تلقف ما صنعوا، أي: ما صنعت بِكَ خواطر السوء والشيطان، لأنه يَعدِ بالفقر ويأمر بالفحشاء، وإنما صنعوا ذلك؛ تخويفًا وتمويهًا، لا حقيقة له، كما يفعل الساحر، {ولا يفلح الساحر حيث أتى}.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8